الحمد لله مدبر الشهور والأعوام , ومصرف الليالي والأيام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو الجلال والإكرام ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة للأنام ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأئمة الأعلام . أما بعد أيها الأحبة الكرام .
قبل ألف وأربعمائة وإحدى وعشرين سنة كانت هذه الأرض أرض الحرمين على موعد مع حادثة عظيمة وقصة مثيرة ، نصر الله بها الدين ، وقلب بها الموازين .
من منا لا يعرف هذه القصة ، وحرف الهاء الذي يشير إليها لا يغيب عن أنظارنا ، فهو بجانب كل رقم نؤرخ به أيامنا .
مكة .. محمد صلى الله عليه وسلم .. أبو بكر ... قريش .. مؤتمر الندوة .. الاغتيال .. الغار .. العنكبوت .. ذات النطاقين .. سراقة .. أم معبد .. الأنصار .. المدينة النبوية .
هذا أيها السادة هو موجز أنباء القصة .
وإن في السيرة لخبرا ، وإن في الهجرة لعبرا ، وإن في دروسها لمدكرا ... فإلى تـفاصيل القصة .
مكث عليه الصلاة والسلام ثلاثة عشر عاماً بمكة يدعو إلى لا إله إلا الله .
سنوات طويلة من التعذيب والإيذاء .. والتشريد والابتلاء .
وبعد اشتداد الأذى ينام عليه الصلاة والسلام في ليلة من الليالي على فراشه فيرى دار الهجرة وإذا هي أرض ذات نخل بين لابتين .. إنها طيبة الطيبة .
ومن مكة تنطلق ركائب المهاجرين ملبيةً نداء ربها .. مهاجرةً بدينها ..مخلفةً وراءها ديارها وأموالها .
ويهم أبو بكر بالهجرة فيستوقفه الرسول صلى الله عليه وسلم ويقول : لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً .
وعلى الجانب الآخر تشعر قريش بالخطر الذي يهدد كيانها بهجرته عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ، فتعقد مؤتمراً عاجلاً في دار الندوة ( برلمان مكة ) للقضاء على محمد قبل فوات الأوان . ويحضر الشيطان معهم على صورة شيخ نجدي قال بعضهم : احبسوه في الحديد حتى يموت ، وقال بعضهم : أخرجوه وانفوه من البلاد ، وبعد أن قوبل هذان الاقتراحان بالرفض تقدم فرعون هذه الأمة أبو جهل برأي خبيث ماكر فقال : أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتىً شاباً جليداً نسيباً ثم نعطي كل فتىً منهم سيفاً صارماً فيضربون محمداً ضربة واحدة فيقتلوه فيتفرق دمه في القبائل . فأعجب القوم بهذا الرأي حتى إن الشيطان الذي لم يستطع الإتيان بمثله أيده وقال : القول ما قال الرجل هذا الرأي لا أرى غيره .
ووافق البرلمان على هذا القرار الغاشم بالإجماع وبدأوا في التنفيذ .
} وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين {
ينزل جبريل فيخبر النبي صلى الله عليه وسلم بتلك المؤامرة ويقول : يا محمد لا تبِت في فراشك الليلة .
وفي بيت أبي بكر كان أبو بكر جالساً مع أهله في الظهيرة ، إذ أقبل النبي عليه الصلاة والسلام متقنعاً مغطياً رأسه ، ففزع أبو بكر لأنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يأيتهم في تلك الساعة .. يدخل النبي عليه الصلاة والسلام فيقول : يا أبا بكر أخرج من عندك . قال أبو بكر : إنما هم أهلك يا رسول الله . قال :فإني قد أذن لي في الخروج . قال أبو بكر : الصحبة بأبي أنت يا رسول الله . فقال : نعم . فبكى أبو بكر ولسان حاله يقول :
طفح السرور علي حتى إنني *** من عظم ما قد سرني أبكاني
روي عن عائشة أنها قالت : فما شعرت أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ .
قال أبو بكر : فخذ بأبي يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين . فقال له صلى الله عليه وسلم : بالثمن .
يعود صلى الله عليه وسلم إلى بيته ويعرّف علياً بالأمانات التي عنده ليؤديها إلى أهلها .وفي ظلمة الليل يجتمع المجرمون ويطوقون منزله عليه الصلاة والسلام .
وفي هذه الساعة الحرجة يأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن يبيت في فراشه وأن يغطي رأسه ببرده الحضرمي .
يفتح النبي عليه الصلاة والسلام الباب .. يخترق صفوف المجرمين ..يمشي بين سيوفهم .. وهم مع هذا لا يرونه ، ثم يأخذ من تراب الأرض ويذره على رؤوسهم الواحد تلو الآخر ثم يمضي بحفظ الله ورعايته .
بات علي على فراشه صلى الله عليه وسلم وغطى رأسه والمجرمون ينظرون من شق الباب ، يتهافتون أيهم يضرب صاحب الفراش بسيفه .
وفي الصباح يكتشف المجرمون فشلهم ، فيعودون وهم ينفضون التراب عن رؤوسهم .
سمعت قريش بالخبر فجن جنونها ، وثارت ثائرتها ، فوضعت جميع طرق مكة تحت المراقبة المشددة ، وأعلنت عن جائزة كبيرة قدرها مائة ناقة لمن يعيد محمداً أو أبا بكر حيين أو ميتين .
وفي بيت أبي بكر كان آل أبي بكر على موعد مع حدثين .
أما الحدث الأول فقد انطلق نفر من قريش إلى بيت أبي بكر فقرعوا الباب ، فخرجت إليهم أسماء فقالوا لها : أين أبوك ؟ قالت : لا أدري . فرفع أبو جهل يده فلطم خدها لطمة شديدة حتى سقط قرطها من أذنها .
وأما الحدث الثاني فقد كان أبو بكر خرج بكل ماله خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم فأقبل والده أبو قحافة وكان شيخاً قد ذهب بصره فدخل على أسماء وقال : والله إني لأراه فجعكم بماله مع نفسه . فقالت أسماء : كلا يا أبت إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً فأخذت أحجاراً ثم وضعت عليها ثوباً ثم أخذت بيده وقالت : ضع يدك على هذا المال . فلما وضعها قال : إن كان ترك لكم هذا فقد أحسن .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أن قريشاً ستجدّ في الطلب شمالاً باتجاه المدينة . فاتجه هو وصاحبه جنوباً إلى غار ثور على طريق اليمن ، ولما انتهيا إلى الغار روي أن أبا بكر دخل الغار وسد جحوره بإزاره حتى بقي منها اثنان فألقمهما رجليه . ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ونام في حجر أبي بكر . وبينما هو نائم إذ لُدغت رجل أبي بكر من الجحر فتصبّر ولم يتحرك مخافة أن ينتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم من نومه ، لكن دموعه غلبته فسقطت على وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيستيقظ ليرى صاحبه قد لدغ قال : يا أبا بكر مالك . قال : لدغت فداك أبي وأمي . فتفل صلى الله عليه وسلم على رجله فبرأت في الحال .
عبدالله بن أبي بكر شاب ذكي نبيه بطل من أبطل الصحابة .. كان يصبح مع قريش فيسمع أخبارها ومكائدها فإذا اختلط الظلام تسلل إلى الغار وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم الخبر فإذا جاء السحر رجع مصبحاً بمكة .
وكانت عائشة وأسماء يصنعان لهما الطعام ثم تنطلق أسماء بالسفرة إلى الغار ولما نسيت أن تربط السفرة شقت نطاقها فربطت به السفرة وانتطقت بالآخر فسميت بـ( ذات النطاقين ) .
ولأبي بكر راعٍ اسمه عامر بن فهيرة ، فكان يرعى الغنم حتى يأتيهما في الغار فيشربان من اللبن ، فإذا كان آخر الليل مر بالغنم على طريق عبدالله بن أبي بكر عندما يعود إلى مكة ليخفي أثر أقدامه .
واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً كافراً اسمه عبدالله بن أريقط وكان هادياً خريتاً ماهراً بالطريق وواعده في غار ثور بعد ثلاث ليال .
أعلنت قريش حالة الطواريء وانتشر المطاردون في أرجاء مكة كلهم يسعى للحصول على الجائزة الكبيرة . وصل بعض المطاردين إلى الجبل وصعدوه حتى وقفوا على باب الغار ، فلما رآهم أبو بكر قال : يا رسول الله لو أن أحدهم نظر تحت قدميه لأبصرنا .. لو أن أحدهم طأطأ بصره لرآنا . فقال له صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما } إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا { .
نظروا إلى الغار وإذا العنكبوت قد نسجت خيوطها على الباب . فقالوا : لو دخل هنا لم تنسج العنكبوت على الباب ، فانقلبوا خاسئين .
مكث عليه الصلاة والسلام وصاحبه في الغار ثلاثة أيام ولما خَمَدت نار الطلب جاءهما عبد الله بن أريقط في الموعد المحدد فارتحلوا وسلكوا الطريق الساحلي .
وفي مشهد من مشاهد الحزن يقف عليه الصلاة والسلام بالحَزْوَرة على مشارف مكة ليلقي النظرة الأخيرة على أطلال البلد الحبيب .. بلد الطفولة والذكريات .. يخاطب مكة ويقول : أما والله إني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلي وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت .
وفي الطريق يمر عليه الصلاة والسلام بديار بني مدلج وإذا سراقة بن مالك جالس في مجلس من مجالس قومه ، فيقول أحدهم : إني رأيت أَسوِدة بالساحل أراها محمداً وأصحابه . ففطن سراقة للأمر لكنه أراد أن يستأثر بالجائزة فقال للرجل : إنهم ليسوا هم ولكنك رأيت فلاناً وفلاناً . ثم لبث سراقة قليلاً ثم قام إلى منزله ولبس سلاحه وانطلق مسرعاً في أثر الرسول صلى الله عليه وسلم وصاحبه .
يبصر سراقة النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فيدنو منهما ، ويسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ولا يلتفت . يلتفت أبو بكر فيرى سراقة فيقول : يا رسول الله أُتينا . يرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه وهو ماضٍ في طريقه لا يلتفت ويقول : اللهم اكفناه بما شئت .. اللهم اصرعه . وكان سراقة يجري بفرسه على أرض صلبة فساخت قدما فرسه في الأرض وكأنما هي تمشي على الطين فسقط عن فرسه ، ثم قام وحاول اللحاق بهما فسقط مرة أخرى ، فنادى بالأمان فتوقف عليه الصلاة والسلام وركب سراقة فرسه حتى أقبل عليه وأخبره خبر قريش وسأل النبي عليه الصلاة والسلام أن يكتب له كتاباً فأمر عامر بن فهيرة أن يكتب له وقال له : أَخفِ عنا . فرجع سراقة كلما لقي أحداً رده وقال : قد كفيتم ما ههنا . فكان أول النهار جاهداً على النبي صلى الله عليه وسلم وكان آخر النهار مدافعاً عنه ، فسبحان مغير الأحوال .
وفي الطريق يمر الركب المبارك بخيمتي أم معبد فيسألها النبي صلى الله عليه وسلم الطعام فتقول : والله لو كان عندنا شيء ما أعوزكم القرى والشاء عازب والسنة شهباء يلتفت عليه الصلاة والسلام وإذا شاة هزيلة في طرف الخيمة فيقول : ما هذه الشاة يا أم معبد ؟ فتقول له : هذه شاة خلفها الجهد عن الغنم قال : أتأذنين أن أحلبها . قالت : نعم إن رأيت بها حلباً . فدعا صلى الله عليه وسلم بالشاة فمسح على ضرعها ودعا فـتـفجرت العروق باللبن فسقى المرأة وأصحابه ثم شرب صلى الله عليه وسلم ، ثم حلب لها في الإناء وارتحل عنها .
وفي المساء يرجع أبو معبد إلى زوجته وهو يسوق أمامه أعنزه الهزيلة . يدخل الخيمة وإذا اللبن أمامه ، فيتعجب ويقول : من أين لك هذا ؟ فتقول له : إنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت .
جزى الله رب العالمين جزاءه *** رفيـقين حـلاّ خيمتي أم معبدِ
هـما نـزلا بالـبر وارتحلا بــه *** فأفلح من أمسى رفيق محمدِ
وفي المدينة سمع الأنصار بخروجه عليه الصلاة والسلام ، فكانوا لشدة تعظيمهم له وفرحهم به وشوقهم لرؤيته يترقبون قدومه ليستقبلوه عند مدخل المدينة ، فيخرجون بعد صلاة الفجر إلى الحرة على طريق مكة في أيام حارة ، فإذا اشتد حر الظهيرة عادوا إلى منازلهم . فخرجوا ذات يوم ثم رجعوا عند الظهيرة إلى بيوتهم . وكان أحد اليهود يطل في هذه الأثناء من أطم من آطامهم فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصاحبه مقبلين نحو المدينة فلم يملك اليهودي أن صاح بأعلى صوته : يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرون . فثار المسلمون إلى السلاح وكان يوماً مشهوداً وسمعت الرجة والتكبير في بني عمرو بن عوف وكبر المسلمون فرحاً بقدومه وتلقوه وحيوه بتحية النبوة وأحدقوا به مطيفين به ، والسكينة تغشاه ، والوحي ينزل عليه { فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة بعد ذلك ظهير } .
تلكم أيها الأحبة أحداث الهجرة ، وفيها من الدروس والعبر ما يضيق عنه المقام . فمنها :
1) درس في الهجرة :
لقد أذن الله تعالى لنبيه وأصحابه بالهجرة لما ضاقت عليهم الأرض ، ومنعتهم قريش من إقامة دين الله .
إن الهجرة بالمعنى الشرعي ليست مجرد الانتقال من بلد إلى آخر فحسب ، بل هي هجرة عامة عن كل ما نهى عنه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، حتى يكون الدين كله لله .
هجرة من الذنوب والسيئات ... هجرة من الشهوات والشبهات ... هجرة من مجالس المنكرات .. هجرة من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة .
2) الصبر واليقين طريق النصر والتمكين :
فبعد سنوات من الاضطهاد والابتلاء قضاها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة يهيأ الله تعالى لهم طيبة الطيبة ، ويقذف الإيمان في قلوب الأنصار ، ليبدأ مسلسل النصر والتمكين لأهل الصبر واليقين {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر : 51] .
إن طريق الدعوة إلى الله شاق محفوف بالمكاره والأذى . لكن من صبر ظفر .. ومن ثبت انتصر .. { والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون } .
3) درس في التوكل على الله والاعتصام بحبل الله :
لقد كانت رحلة الهجرة مغامرة محفوفة بالمخاطر التي تطير لها الرؤوس .
فالسيوف تحاصره عليه الصلاة والسلام في بيته وليس بينه وبينها إلا الباب .. والمطاردون يقفون أمامه على مدخل الغار .. وسراقة الفارس المدجج بالسلاح يدنو منه حتى يسمع قراءته .. والرسول صلى الله عليه وسلم في ظل هذه الظروف العصيبة متوكل على ربه واثق من نصره .
فمهما اشتدت الكروب ومهما ادلهمت الخطوب يبقى المؤمن متوكلاً على ربه واثقاً بنصره لأوليائه .
فالزم يديك بحبل الله معتصماً *** فإنه الركن إن خانتك أركان
4) درس في المعجزات الإلهية :
هل رأيتم رجلاً أعزلاً محاصراً يخرج إلى المجرمين ويخترق صفوفهم فلا يرونه ويذر التراب على رؤوسهم ويمضي .. هل رأيتم عنكبوتاً تنسج خيوطها على باب الغار في ساعات معدودة .. هل رأيتم فريقاً من المجرمين يصعدون الجبل ويقفون على الباب فلا يطأطيء أحدهم رأسه لينظر في الغار .. هل رأيتم فرس سراقة تمشي في أرض صلبه فتسيخ قدماها في الأرض وكأنما هي تسير في الطين .. هل رأيتم شاة أم معبد الهزيلة يتفجر ضرعها باللبن .
إن هذه المعجزات لهي من أعظم دلائل قدرة الله تعالى ، وإذا أراد الله نصر المؤمنين خرق القوانين ، وقلب الموازين { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } .
5) درس في الحب :
وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم :" لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين " .
إن هذا الحب هو الذي أبكى أبا بكر فرحاً بصحبته صلى الله عليه وسلم . . . إن هذا الحب هو الذي جعل أبا بكر يقاوم السم وهو يسري في جسده يوم أن لدغ في الغار لأن الحبيب ينام على رجله .
إن هذا الحب هو الذي أرخص عند أبي بكر كل ماله ليؤثر به الحبيب صلى الله عليه وسلم على أهله ونفسه .
إن هذا الحب هو الذي أخرج الأنصار من المدينة كل يوم في أيام حارة ينتظرون قدومه صلى الله عليه وسلم على أحر من الجمر . فأين هذا ممن يخالف أمر الحبيب صلى الله عليه وسلم ويهجر سنته ثم يزعم أنه يحبه !!!
يا مدعي حب أحمد لا تخالفه *** فالحب ممنوع في دنيا المحبينا
6) درس في التضحية والفداء :
لقد سطر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه صفحات مشرقة من التضحية ، والمغامرة بالأنفس والأموال لنصرة هذا الدين .. لقد هاجروا لله ولم يتعللوا بالعيال ولا بقلة المال فلم يكن للدنيا بأسرها أدنى قيمة عندهم في مقابل أمر الله وأمر ورسوله صلى الله عليه وسلم .
فيوم أن بات علي في فراشه صلى الله عليه وسلم وغطى رأسه كان يعلم أن سيوف الحاقدين تتبادر إلى ضرب صاحب الفراش ، ويوم أن قام آل أبي بكر عبدالله وأسماء وعائشة ومولاه عامر بهذه الأدوار البطولية كانوا يعلمون أن مجرد اكتشافهم قد يودي بحياتهم .
هكذا كان شباب الصحابة فأين شبابنا .. أين شبابنا الذين يضعون رؤوسهم على فرشهم ولا يضحون بدقائق يصلون فيها الفجر مع الجماعة .
نعم .. لقد نام شبابنا عن الصلاة يوم أن نام علي مضحياً بروحه في سبيل الله ، فشتان بين النومتين .
أين شبابنا الذين كلّت أناملهم من تقليب أجهزة القنوات ومواقع الشبكات . أين هذه الأنامل من أنامل أسماء وهي تشق نطاقها لتربط به سفرة النبي عليه الصلاة والسلام . ويوم القيامة ستشهد الأنامل على تضحية أسماء ، وستشهد على الظالمين بما كانوا يعملون .
7) درس في العبقرية والتخطيط واتخاذ الأسباب :
لقد كان صلى الله عليه وسلم متوكلاً على ربه واثقاً بنصره يعلم أن الله كافيه وحسبه ، ومع هذا كله لم يكن صلى الله عليه وسلم بالمتهاون المتواكل الذي يأتي الأمور على غير وجهها . بل إنه أعد خطة محكمة ثم قام بتنفيذها بكل سرية وإتقان .
فالقائد : محمد ، والمساعد : أبو بكر ، والفدائي : علي ، والتموين : أسماء ، والاستخبارات : عبدالله ، والتغطية وتعمية العدو : عامر ، ودليل الرحلة : عبدالله بن أريقط ، والمكان المؤقت : غار ثور ، وموعد الانطلاق : بعد ثلاثة أيام ، وخط السير : الطريق الساحلي .
وهذا كله شاهد على عبقريته وحكمته صلى الله عليه وسلم ، وفيه دعوة للأمة إلى أن تحذو حذوه في حسن التخطيط والتدبير وإتقان العمل واتخاذ أفضل الأسباب مع الاعتماد على الله مسبب الأسباب أولاً وآخراً .
8) درس في الإخلاص :
ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنه ليس أحدٌ أمنُّ علي في نفسه وماله من أبي بكر " فقد كان أبو بكر} الذي يؤتي ماله يتزكى { ينفق أمواله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعلى الدعوة إلى دين الله .
لكن السؤال هنا هو لماذا رفض صلى الله عليه وسلم أخذ الراحلة من أبي بكر إلا بالثمن ؟
قال بعض العلماء : إن الهجرة عمل تعبدي فأراد عليه الصلاة والسلام أن يحقق الإخلاص بأن تكون نفقة هجرته خالصة من ماله دون غيره . وهذا معنى حسن ، وهو درس في الإخلاص وتكميل أعمال القرب التي تفتقر إلى النفقة ( كنفقة الحج ، وزكاة الفطر ، وغيرها من الأعمال ) فإن الأولى أن تكون نفقتها من مال المسلم خاصة .
9) درس في التأريخ الهجري :
التأريخ بالهجرة النبوية مظهر من مظاهر تميز الأمة المسلمة وعزتها . ويعود أصل هذا التأريخ إلى عهد عمر رضي الله عنه . فلما ألهم الله الفاروق الملهم أن يجعل للأمة تأريخاً يميزها عن الأمم الكافرة استشار الصحابة فيما يبدأ به التأريخ ، أيأرّخون من مولده عليه الصلاة والسلام ؟ أم مبعثه ؟ أم هجرته ؟ أم وفاته ؟ .
وكانت الهجرة أنسب الخيارات . أما مولده وبعثته فمختلف فيهما ، وأما وفاته فمدعاة للأسف والحزن عليه . فهدى الله تعالى الصحابة إلى اختيار الهجرة منطلقاً للتأريخ الإسلامي .
وظلت الأمة تعمل بهذا التأريخ قروناً متطاولة ، حتى ابتليت في هذا العصر بالذل والهوان ، ففقدت هيبتها ، وأعجبت بأعدائها ، واتبعتهم حذو القذّة بالقذّة ، حتى هجرت معظم الدول المسلمة تأريخها الإسلامي فلا يكاد يعرف إلا في المواسم كرمضان والحج ، وأرخت بتواريخ الملل المنحرفة .
لقد نسينا تاريخنا فأنسينا تأريخنا .. وأضعنا أيامنا فضاعت أيامنا .. وما لم نرجع إلى ديننا الذي هو عصمة أمرنا .. فسلامٌ على مجدنا وعزنا .. والله المستعان .
وإن مما يفخر به كل مسلم ما تميزت به هذه البلاد بلاد الحرمين ومهبط الوحي ومهاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم من اعتماد التأريخ الهجري النبوي تاريخاً رسمياً لكافة مرافقها ، نسأل الله أن يحفظها وجميع بلاد المسلمين بحفظه ، وأن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، ويعز دينه ويعلي كلمته ، إنه جواد كريم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .