لو طهرت قلوبنا .....
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
ما كان لأمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - أن يقول مقالته البليغة:
(لو طهرت قلوبنا ما شبعت من كلام الله)؛ إلا وقد حقق ذلك عملاً وسلوكاً.
فما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم النظر فيه، ورثى حسان بن ثابت
- رضي الله عنه - أمير المؤمنين عثمان بن عفان - رضي الله عنه - فقال:
ضَحَّوْا بأشمطَ عُنْوانُ السُّجودِ *** لَهُ يُقطِّع الليلَ تسبيحاً وقرآنَا!
ونعتته زوجه - رضي الله عنها - فقالت: (فو الله! لقد كان يُحيي الليل بالقرآن في ركعة)[1].
إن الإقبال على القرآن والانتفاع به تلاوة وتدبراً وعملاً متحقق لأصحاب
القلوب الحية، حيث قال تعالى: ((إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب)) (ق: 37).
قال ابن القيم - رحمه الله -: قوله: ((لِمَن كَانَ لَهُ قَلْب))؛ فهذا هو المحل القابل، والمراد به القلب
الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: ((إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَياًّ)) (يس: 69-70)؛
أي حي القلب.
فصاحب القلب الحي بين قلبه وبين معاني القرآن أتم الاتصال، فيجدها كأنها قد
كُتبتْ فيه، فهو يقرؤها عن ظهر قلب»[2].
ونبّه ابن القيم في موضع آخر إلى أن سلامة القلب من شرور النفس ومكايد
الشيطان يحقق الانتفاع والتأثر بالقرآن، فقال في مشروعية الاستعاذة عند تلاوة القرآن:
وقال لي شيخ الإسلام [ ابن تيمية ] -رحمه الله- يوماً: إذا هاش عليك كلب
الغنم فلا تشتغل بمحاربته ومدافعته، وعليك بالراعي فاستغث به، فهو يصرف عنك الكلب.
فإذا استعاذ بالله من الشيطان بَعُد منه، فأفضى القلب إلى معاني القرآن،
ووقع في رياضه المونقة، وشاهد عجائبه التي تبهر العقول، واستخرج من كنوزه وذخائره
ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، وكان الحائل بينه وبين ذلك النفس والشيطان،
والنفس منقعة للشيطان سامعة منه، فإذا بَعُد عنها وطُرِد؛ لمّ بها الملَك وثبّتها
وذكّرها بما فيه سعادتها ونجاتها»[3].
وقد قال الله تعالى: ((لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ)) (الواقعة: 79).
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (فإذا كان ورقه لا يمسه إلا المطهرون؛
فمعانيه لا يهتدي بها إلا القلوب الطاهرة)[4].
ولما كان سلفنا الصالح أصحاب قلوب حية وأفئدة طاهرة نقية من المعاصي والمحدثات؛
انتفعوا بالقرآن، فظهرت آثار تلاوته من وجل القلب، واقشعرار الجلد، ودمع العين[5].
قال تعالى: ((إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ
آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)) (الأنفال: 2).
وقال سبحانه: ((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ)) (الزمر: 23).
وقال عز وجل: ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِياًّ)) (مريم: 58).
كما تحقق لهم العلم النافع والفقه في دين الله تعالى، والرسوخ في علوم الشريعة.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: (والمقصود أن القرآن مَنْ تدبّره تدبراً تاماً
تبيّن له اشتماله على بيان الأحكام، وأن فيه من العلم ما لا يدركه أكثر الناس، وأنه يبيّن
المشكلات ويفصل النزاع بكمال دلالته وبيانه إذا أُعطي حقه، ولم تُحرّف كَلِمُه عن مواضعه)[6].
ويقول أيضاً: (ومَنْ أصغى إلى كلام الله وكلام رسوله بعقله، وتدبَّره بقلبه؛ وَجَدَ فيه
من الفهم والحلاوة، والبركة والمنفعة ما لا يجده في شيء من الكلام لا منظومه ولا منثوره)[7].
ويقول في موضع ثالث: « فالقرآن قد دلّ على جميع المعاني التي تنازع الناس فيها؛ دقيقها وجليلها»[8].
كما حوى القرآن الكريم الرد على كل مبتدع، كما قال تعالى:
((وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرا)) (الفرقان: 33).
قال مسروق - رحمه الله -: (ما أحد من أصحاب الأهواء إلا في القرآن ما يردّ عليهم، ولكنَّا لا نهتدي له!)[9].
إن انهماك طوائف من جيل الصحوة في سماع القصائد والأناشيد والتوسع في ذلك؛
قد يوقعهم في تفريط وتقصير تجاه كتاب الله تعالى.
ولما ساق ابن تيمية - رحمه الله - مقالة الإمام الشافعي - رحمه الله -:
« خلّفت ببغداد شيئاً أحدثته الزنادقة يسمّونه التغبير، يصدون به الناس عن القرآن؛
فقال: « وهذا من كمال معرفة الشافعي وعلمه بالدين، فإن القلب إذا تعوّد سماع
القصائد والأبيات والتذّ بها؛ حصل له نفور عن سماع القرآن والآيات..)[10].
ويقول في موضع آخر: (إن السُّكْر بالأصوات المطربة قد يصير من جنس السُّكْر بالأشربة،
فيصدهم عن ذكر الله وعن الصلاة، ويمنع قلوبهم حلاوة القرآن، وفهم معانيه واتباعه..)[11].
فعلى الدعاة والمربين أن يبذلوا جهدهم ويعمِّروا برامج طلابهم وشبابهم بما ينفع.
ونختم هذه المقالة بعبارات مؤثِّرة دوَّنها ابن القيم - رحمه الله - حيث قال:
«فما أشدها من حسرة، وأعظمها من غبنة على من أفنى أوقاته في طلب العلم،
ثم يخرج من الدنيا وما فهم حقائق القرآن، ولا باشر قلبُه أسراره ومعانيه!)[12].
_______________________
[1] البداية والنهاية، لابن كثير، 7/214.
[2] الفوائد، ص 3.
[3] السماع، ص 194، 195.
[4] شرح حديث النزول، لابن تيمية، ص 428، وانظر: المستدرك على فتاوى ابن تيمية، 1/
169.
[5] انظر: تفصيل ذلك في مجموع الفتاوى لابن تيمية، 11/8.
[6] جامع المسائل، 1/256.
[7] اقتضاء الصراط المستقيم، 2/741.
[8] الدرء، 5/56.
[9] أخرجه الهروي في ذم الكلام، ص 69.
[10] الفتاوى، 11/532.
[11] الفتاوى، 11/643.
[12] بدائع الفوائد، 1/218.