كان قلبه المشتاق يدفعه أن يخترق تلك الجموع التي هفت إلى ذلك المكان فسارت إليه بأقدامها وأرواحها المحبة..فأتت لتعبر عن عبودية الحب والامتثال..
انتفض فؤاده الصغير لمّا رآها..أكبرها وأعظمها..وتضاءل نفسه أمامها..
رأى أنه مقارنة بها لا يساوي شيئاً بل هو هباءة في ملك الله العظيم..
هاهو الآن يطوف حولها ليكرر في كل شوط ٍعهداً وميثاقاً غليظاً أنّه على التوحيد,,,
وكأنه يخلع في طوافه أردية الهوى والعصيان..ويلقي بها بعيداً..
تدافعت على ذهنه المكدود صوراً من الماضي كما السيل الجارف سيء وحسن..
لتلقي به بعيداً..
ليرى نفسه حينما كان فتياً..وفورة الشباب تتدفق في دماءه لتجعله يضرب الأرض بكل
قوته دون أن ينظر إلى مستقبله الذي ينتظره..لم يكن يفكر أبداً في النهاية..
كانت البدايات هي مايفكر فيها دائماً..ليمضي في طريق متعته ولذته من دنياه دون أن يفكر
أو يتوقف هنيهة للتفكير..
صوت الطائفين الملبين قطع عليه تفكيره فأعاده إلى ذلك المكان الطاهر المهيب.
.ليواصل طوافه وهو يمعن في اللوم لتلك النفس..
ويرتفع ببصره خلسة ,ليتنسم نسائم عذبة أبت إلا أن تخرجه من حزنه الجاثم
على صدره وتحّلق به بعيداً..لتحرر الفؤاد من آصار عصيان وغل هوى قعد به سنين.
كم تمنى أن يرى دمع عينيه مدراراً في هذه اللحظة القدسية..
حاول أن يتفرس في وجوه الطائفين..لعله يجد عبرة تحرك هذا القلب القاسي..
وفي لحظة من التفكير توقف فيها الزمان ليرسم له ساعة رحيل تتراءى
في الافق كطيف برق... إذ بقطار من الحجيج وبكل قوة ..يخترق صفه وقد عزم
على أن يمضي لمراده ..ويبلغ مقصوده ليحظى بقرب من بيت الله..
فأحيط به ليهشم كل قوة وجبروت في جسده..بل كل قوة روحية..
وتقترب عليه جدران صدره لتزهق الحياة..ويحلق آخر نفس بعيداً عنه بجناحي حياء
يودع على استحياء إذ لا فائدة من المقاومة..
تقعقت نفسه..وترحل آخر نفس..وتحركت يداه في كل ا تجاه تبحث عن حبل نجاة..
تداعت أمامه صور حياته وفتوته وقوته لترتطم بالقاع فيرى صورته
وقد تشّظت لتعلن نهاية إنسان..
واستسلم وكاد..لكنّ رغبة في حياة قابعة..جعلته يحاول في لحظته الأخيرة
ويدفع بكلتا يديه تلك الأفواج الجبارة الماضية بعزم دون رحمة ولا إشفاق..
ويرفع رأسه إلى السماء مودعاً كل شيء..ودموع تتقاطر تحكي همسات رجاء..
صوت كسير..يخترق العلو بكل أمل .."يارب" " يارب" "يارب"
و في لحظة غياب يسقط ذلك الجسد المنهك في الأرض..وهو يشرق بدمعه
لتبتعد عنه تلك الأجساد الصلبة ..وهو ينازع لحظة حياة ...أعلنت بقاءً .
.محاولاً طرد صورة نعشه الذي رآه يحمل على الأكتاف..