لا شك ولا ريب أن أول الأمور في طلب العلم بل هو أعظمها وأجلّها ( حفظ القرآن الكريم ) والناظر إلى سير علمائنا السابقين واللاحقين يجد أنهم أول ما يهتمون بحفظ القرآن الكريم فيحفظونه منذ نعومة أظفارهم قبل البلوغ ذلك لأنه أساس العلوم وقوامها ومنه أولاً تستمد الأحكام والأدلة ، ثم بعد ذلك يتدرجون في سلم العلوم الشرعية .
قال الميموني : سألت أبا عبدالله ( يعني الإمام أحمد ) أيهما أحب إليك أبدأ ابني بالقرآن أو بالحديث ؟ قال : لا بالقرآن ،قلت : أعلمه كله ؟ قال : إلا أن يعسر ، فتعلمه منه . ( الآداب الشرعية لابن مفلح ( 2/ 33 )
وقال الخطيب البغدادي : ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عز وجل إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم . ( الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/106 ).
وقال الحافظ النووي رحمه الله : وأول ما يبتدئ به حفظ القرآن العزيز فهو أهم العلوم ، وكان السلف لا يُعلِّمون الحديث والفقه إلا لمن حفظ القرآن . ( مقدمة المجموع شرح المهذب )
وقال شيخ الإسلام : وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما وهو إما باطل أو قليل النفع ، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع ، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن فإنه أصل علوم الدين .( الفتاوى الكبرى 2/235)
والذي يشاهد واقع الشباب اليوم يجد أن بعضهم يُغفل جانب حفظ القرآن بل بعضهم يبدأ بالحفظ قليلاً ثم لا يلبث أن ينقطع مع أنه ربما يكون مجتهداً في حضور الدروس العلمية الشرعية .
وبما أن الله منّ عليّ بتدريس وتعليم القرآن سنوات عديدة - أسأل الله أن لا يحرمني أجرها – فقد جمعت بعض الأسباب من خلال الواقع التي يعتذر بها بعض الشباب عن مواصلة الحفظ ثم أردفت كل سبب بالحلول المناسبة له من وجهة نظري .
وقبل البدء لابد من معرفة حقيقة عظيمة هي أن هذا القرآن سهل الحفظ لسهولة ألفاظه وسلاسة أسلوبه قال الله تعالى : (( ولقد يسَّرنا القرآن للذِّكر فهل من مّدَّكر )) قال العلامة الشيخ عبدالرحمن السعدي في تفسيره : ولقد يسرنا وسهلنا هذا القرآن الكريم ألفاظه للحفظ والأداء ، ومعانيه للفهم والعلم لأنه أحسن الكلام لفظاً وأصدقه معنى وأبينه تفسيراً ، فكل من أقبل عليه يسّر الله عليه مطلوبه غاية التيسير وسهّله عليه .. ثم يقول : ولهذا كان علم القرآن حفظاً وتفسيراً أسهل العلوم وأجلّها على الإطلاق وهو العلم النافع الذي إذا طلبه العبد أعين عليه ، وقال بعض السلف عند هذه الآية : هل من طالب علم فيُعان عليه ؟ ولهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه والتذكر بقوله : (( فهل من مدّكر )) انتهى كلامه رحمه الله .
إذاً فالأصل في القرآن أنه سهل الحفظ ميسوره لكن الخلل منا نحن الذين تشاغلنا عن الإقبال عليه حفظاً وتفهماً بأعذارٍ بعضها يوجد لها حل وكثير منها من تلبيس إبليس على الشباب .
وقد رأيت أن هذه الأسباب تجتمع في ثلاثة أسباب رئيسية هـي :
1) الاعتذار بكثرة المشاغل سواء كانت مشاغل الوظيفة أو الأهل أو نحو ذلك ، ولا شك أن الناس جميعاً في انشغالات لا تنتهي بل حتى أهل القبور دخلوا قبورهم ولمّا تنقضي مشاغلهم!! لكن شتان بين من ينشغل في الدنيا وطلب الرزق ويجعل هذا همه الأكبر وبين من ينشغل بالإقبال على القرآن والعلم وما يفيده في آخرته .
ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم القدوة فهو القائد والإمام ورب الأسرة والمربي والعابد الزاهد ولم يمنعه كل ذلك صلى الله عليه وسلم من إعطاء كل ذي حق حقه . فالحل لمثل هذا الأمر يكمن في تنسيق وتنظيم الوقت فلا يطغى جانب على جانب قال سلمان الفارسي رضي الله عنه : إن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ولأهلك وضيفك عليك حقاً فأعط كل ذي حق حقه . فقال صلى الله عليه وسلم ( صدق سلمان ) رواه ابن حبان وابن خزيمة في صحيحيهما . ثم لو علم الإنسان عظمة كلام الله عز وجل حق العلم لاستحى أن يُعطيه فاضل وقته .
2) الاعتذار بطلب العلم ، وهذا لا شك أمر مردود لأن كتاب الله جل وتعالى أول ما ينبغي على طالب العلم الإقبال عليه فهو أهم المهمات كما تقدم . قال الخطيب البغدادي رحمه الله : والعلم كالبحار المتعذّر كيلها والمعادن التي لا ينقطع نيلها فاشتغل بالمهم منه فإنه من شغل نفسه بغير المهم أضـرّ بالمهم . انتهى
وإذا طلبت العلم فاعلم أنه *** حِمل فأبصر أيّ شيءٍ تحمـل
وإذا علمتَ بأنه متفاضـل *** فاشغل فؤادك بالذي هو أفضل
فاحرص يا أخي على البدء بكتاب الله حفظاً وتفهماً ، ولا بأس مع تنظيم الوقت المذكور آنفاً أن تأخذ من العلوم بعد ذلك ما أردت .
3) الاعتذار بتفلّت القرآن ونسيانه ، وهذا مدخل شيطاني خطير والدليل على ذلك أنه يعالج الداء بداء آخر فيعالج النسيان بترك الحفظ والمراجعة ، وهذا خطأ بلا شك . سألت أحد الشباب
ممن ابتدأ في حفظ القرآن ثم انقطع عن سبب انقطاعه فقال : لأنني نسيت ما حفظت فقلت له : وهل انقطاعك يذكرك ما نسيت أو يزيد في حفظك ؟!
والنبي صلى الله عليه وسلم قد أخبرنا بهذه الحقيقة أي أن القرآن شديد التفلّت لكنه أرشدنا إلى الحل الأمثل في ذلك بل أنه قدم الحل قبل بيان المشكلة كما في الحديث المتفق عليه ( تعاهدوا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها ) فأمرنا بتعاهده والتعاهد هو كثرة المراجعة ولا شك أن المتعاهد للقرآن سينشط بعد ذلك في مواصلة الحفظ .
هــذا وإن هناك أسباباً حقيقية تصـد الشـاب عن حفظ القـرآن والإقبال عليه أذكر منها :
1) الوحدة : وذلك بأن يريد الشاب أن يحفظ القرآن لوحده بجهده الخاص ولا ريب أن هذا الفعل فيه عدة سلبيات منها أنه قد يعتريه الفتور سريعاً فيقعد عن مواصلة الحفظ ، وكذلك فإنه قد لا يكتشف أخطاءه إذا كان يقرأ لوحده ، وعلى كل حال فقد قال عليه الصلاة والسلام ( إنما يأكل الذئب من الغنم القاصية ) رواه الحاكم . فعليك يا أخي أن تتواصى مع غيرك من إخوانك في حفظ القرآن الكريم أو الالتحاق بحِلق تحفيظ القرآن المنتشرة ولله الحمد وذلك لتحفظ على الوجه الصحيح ويتبيّن لك مدى إتقانك لما تحفظ .
2) استطالة طريق الحفظ : فقد يبدأ الشاب في الحفظ ويريد أن يختم القرآن في أسبوع أو أسبوعين أو شهر أو شهرين ثم ما يلبث أن يستطيل المدة فيفتر والسبب في ذلك الحماس غير المنضبط . فعليك أن تعلم يا أخي أن حفظ القرآن لا بد له من وقت طويل يُقدر بثلاث سنوات تقريباً في الغالب وكلٌ على حسب طاقته وجهده وتفرغه فلا تُحمِّل نفسك فوق طاقتها ولا تستعجل في أمرٍ لك فيه أناة قال صلى الله عليه وسلم ( أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل ) متفق عليه .
3) المعاصي : وهذا بلا شك سبب رئيس في الحرمان من كل خير فلا يُحرَم العبد خيراً إلا بسبب ما كسبته نفسه من المعاصي والآثام قال صلى الله عليه وسلم ( إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ) رواه الإمام أحمد ، ولا شك أن حفظ القرآن الكريم من أعظم وأجل النعم على العبد ، فاجتهد يا أخي في تحرير نفسك من ذلّ المعصية وشؤمها لينفتح لك باب المعونة من الله عز وجلّ .
أسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهله وخاصته ، وأن يجعلنا من الذين يقيمون حروف القرآن كما يُقيمون حدوده وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين